لم يلق مصطلح من مصطلحات الأدب والنقد من الغموض والإبهام مثلما لقي مصطلح الحداثة، لما له من الشمولية والعموم، مما حدا بالنقاد إلى الإجماع على أنه ليس هناك حداثة واحدة بل حداثات متعددة تختلف فيما بينها أكثر مما تتفق، مما يجعل لفظ الحداثة ينسحب على الشيء ونقيضه على حد تعبير د. عبد العزيز حمودة.
لهذا كان من أهم سمات الحداثة أنها نفيٌّ للنموذج ورفض للمثال، وبالتالي تأبى الحداثة المعيارية فتحارب الضوابط اللغوية والقواعد الفنية، وتسعى دوما إلى هدم الأنساق الثقافية وإختراق الأجناس الأدبية، ومن هنا كانت الوسيلة الفضلى للحداثة التجريب بلا ضابط أو قيد. وهذا ما أوقع الحداثة عموماً والحداثة العربية على وجه الخصوص في إشكالية القطيعة مع الجمهور، فأصبح الحداثيون العرب يهيمون في وديان التجريب دون تقديم نموذج محدد الملامح، فما أن يستقر شكل من الأشكال التجريبية حتى يثوروا عليه ويدعوا إلى تجاوزه، فما أن ظهرت الرواية حتى تجاوزتها الحداثة إلى رواية اللارواية، وما أن تشكل الشعر الحر حتى هاجمته قصيدة النثر، وما تجلت الواقعية في الأدب حتى أزاحتها العبثية واللامعقول... إلخ.
هذا من ناحية الشكل الفني والجنس الأدبي، أما من حيث المضمون فالحداثة تقف موقف العدو من الحاضر والماضي، فتنظر إلى الحاضر نظرة ريبة وشك، في حين أنها تدعو إلى قطيعة جذرية مع التراث والماضي، فالحداثة كما يعرفها -تريلنج- هي العداء الكامل للحضارة. وعليه فهي كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا، أبقى فلا هي عبرت عن مشكلات الحاضر وهموم الواقع، ولا هي إستلهمت أصالة التراث وعبق التاريخ، مما حدا بالقارئ العربي أن يجد النص الحداثي هلامي الشكل فارغ المضمون، لا يعبر عن واقع معاش، ولا يستدعي ماضٍ أصيل.
فمثلا الشاعر الحداثي لا يجد من المشكلات التي ترزح تحتها المرأة العربية سوى شبق المثلية الجنسية، وكأن المرأة العربية لا تعاني من أي مشاكل إجتماعية أو إقتصادية، فلا مشكلة في التعليم ولا ثمة أمية، فهي تعيش في رفاهية صحية، ولا تعاني من الأمراض، ولا تشتكي من الأزمات الإقتصادية وإرتفاع العنوسة، بل مشكلتها الوحيدة أنها لا تستطيع أن تعبر عن شبقها الجنسي بحرية، نتيجة الجمود الفكري والتخلف الحضاري للمجتمعات العربية التي ترفض الإعتراف بعشقها لبنات جنسها، فكانت مهمة المرأة الحداثية ورسالتها التي تحملها في المجتمع العربي هي هدم هذا الطابوه العقيم.
مطرٌ.. مطرٌ.. وصديقتها معها، ولتشرين نواحُ
والباب تئنّ مفاصله ويعربد فيه المفتاحُ
شيءٌ بينهما.. يعرفه *** اثنان أنا والمصباحُ
وحكاية حبٍّ.. لا تحكى *** في الحب يموت الإيضاحُ
الحجرة فوضى فحليٌّ *** تُرمى.. وحرير ينزاحُ
ويغادر زرٌّ عروته *** بفتورٍ، فالليل صباحُ
الذئبة ترضع ذئبتها *** ويد تجتاح وتجتاحُ
ودثار فرَّ.. فواحدة *** تدنيه، وأخرى ترتاحُ
وحوار نهودٍ أربعةٍ *** تتهامس، والهمس مباحُ
إن قضايا الوطن العربي والتي تدفعه إلى التخلف والهمجية -من وجهة نظر الحداثيين والحداثيات- هي عدم إعترافه بالمثلية الجنسية، وعليه فنضال الأديب الحداثي هو تحطيم الطابوهات، وكسر دائرة الممنوع والمسكوت عنه، حتى يضع الوطن العربي قدمه في ركب الحضارة.
وهذا نص مقتبس، من إحدى القصص التي تدافع عن هذه القضايا المحورية في الأدب الحداثي، ويجتمع عليها الرفقاء، وقد تحريت أن يكون النص خاليا من الوصف والتجسيد والتشخيص وكل علوم البلاغة الحداثية، التي تصف وتشف: -ألهذه الدرجة أنتم متأخرون؟ تقولين أن أمك مثقفة وواعية جداً فما هذه الثقافة وما هذا الوعي؟ أقبَلُ بأن تقول لي أنني سحاقية، لكن أن تنعتني بالقذارة والمرض وبتلويث إبنتها فهذا ما لا أسمح به إطلاقاً-.
هذا التخريب الفكري والتجريب اللافني أدى إلى قطيعة حتمية بين جمهور يعاني من مشكلات الواقع، ويحتاج إلى متنفس يعبر عن آلامه وآماله فيتفاعل معه، إلا إنه في أدب الحداثة يصطدم هذا الجمهور المغلوب على أمره بأدب اللأدب والذي يتنافى مع ذوقه السليم، ويفتقد إلى أبجديات جماليات النص العربي.
الكاتب: هاني إسماعيل محمد.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.